تزايد الطلب على المياه مقابل تناقص الموارد المائية
إن الاحتياجات في مجال المياه ستزداد زيادة كبيرة للغاية في خلال العقود المقبلة، وذلك نتيجةً للنمو السكاني السريع وما اقترن به من ارتفاع في مستوى الرخاء الذي تشهده فئات سكانية تركزت بشكل كبير في المناطق الحضرية. ومن ثم فمن الصعب بمكان البحث عن حلول وسطى في ما يتعلق بالإمدادات المائية من أجل ضمان الأمن في توفير الغذاء والطاقة. والأخطر من ذلك أن تغير المناخ من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض مستوى الموارد المائية في العديد من المناطق في العالم، وأن يجعل تجديدها أقل قابلية للتنبؤ.
ازدهار تجارة المياه الافتراضية وامتلاك مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية في الخارج
اتخذت بالفعل بعض الدول التي تفتقر إلى المياه حيطتها لضمان الحصول على مساحات شاسعة من الأراضي في الخارج واستيراد "المياه الافتراضية" في شكل مواد غذائية، وذلك للوقاية من تزايد المخاطر المتعلقة بنقص الغذاء والمياه والطاقة. وتمثل الحبوب المستوردة جزءاً هاماً من المياه الافتراضية المستهلكة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهما منطقتان تستوردان بالفعل 50 مليون طن من الحبوب سنوياً، وذلك ابتداءً من عام 2000. وفي هذا السياق، فإن البلدان النامية التي تفتقر إلى المياه تواجه معضلة محيرة، لأن سكان هذه البلدان من الفقر بحيث يعجزون عن شراء المواد الغذائية المستوردة.
وفي العالم العربي، أفضى تزايد عمليات استخراج المياه الجوفية لأغراض الري إلى تواتر سريع في الإنتاج المحلي للحبوب. ومع ذلك، فإن خزانات المياه الجوفية آخذة في الاستنفاد. وعلاوة على ذلك، يُكلف سوء نوعية المياه بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما بين 0،5% و2،5% من الناتج المحلي الإجمالي في هذه البلدان.
وتضم البلدان المستثمرة الأكثر نشاطاً في امتلاك الأراضي على نطاق واسع خارج حدودها دول الخليج العربي الغنية بالنفط، والتي تقل فيها المنتجات الغذائية، والبلدان ذات الكثافة السكانية العالية في آسيا، والتي تفتقر إلى الأراضي، فضلاً عن البلدان المتقدمة. كما تشمل الشركات المستثمرة غير الحكومية الشركات الغربية التي تنتج وتُحوّل المنتجات الغذائية قبل تصديرها؛ وتُعتبر هذه الشركات بمثابة أطراف فاعلة جديدة يستقطبها الطلب على الوقود البيولوجي والفرص التي توفرها صناديق الاستثمار.
وفي عام 2007، أعلنت المملكة العربية السعودية، التي تُعَد أحد البلدان الرئيسية في الشرق الأوسط المنتجة للحبوب، أنها خفضت الكميات التي تنتجها بنسبة 12% سنوياً، وذلك من أجل تقليل عمليات استخراج المياه من طبقات المياه الجوفية المعرضة للاستنفاد. وفي عام 2011، حثت الحكومة السعودية الشركات العاملة في البلاد، من خلال تدابير خاصة، على استئجار مساحات شاسعة من الأراضي في أفريقيا لاستغلالها في الإنتاج الزراعي، وذلك من أجل ضمان الأمن في مجال المياه والغذاء فيها. وقد استأجر بالفعل مستثمرون سعوديون أراض في مصر وإثيوبيا وكينيا والسودان. وتقوم الهند بزراعة الذرة وقصب السكر والعدس والأرز في إثيوبيا وكينيا ومدغشقر والسنغال وموزمبيق، وذلك لتزويد أسواقها الداخلية، في حين أن شركات أوروبية تسعى للحصول على 3،9 مليون هكتار من الأراضي في أفريقيا حتى تبلغ الهدف الذي حددته وهو 10% من الوقود البيولوجي بحلول عام 2015.
ومن الممكن أن تؤثر نتائج سلبية وغير متوقعة على الدول الأفريقية حيث تجري مثل هذه المعاملات. مثال ذلك أن الهند اشترت 1 مليون هكتار من الأراضي في أثيوبيا، البلد الذي يُعتبر من أشد بلدان العالم هشاشة من حيث الأمن الغذائي. وقد ينجم عن ذلك أيضاً تهجير للسكان وانعدام السيطرة على الأراضي واحتمال نشوب نزاعات وأوضاع غير مستقرة بسبب انتزاع مجتمعات عدة من بيئتها. أما تداعيات ذلك في ما يخص البيئة فإنها سلبية جداً، وذلك لأن الصناعة الزراعية واسعة النطاق تقتضي توفير الأسمدة ومبيدات الطفيليات ومبيدات الأعشاب ووسائل النقل المكثفة، ونظم التخزين والتوزيع. ولا يتوافر في العديد من الدول التي وقعت ضحية لممارسات "السطو على الأراضي" سوى هياكل إدارية ضعيفة؛ كما أنه ليس في وسعها حماية المجتمعات المحلية فيها، فضلاً عن أنها لا تعمل على وضع آليات لتشاطر المنافع.
إسهام أوجه التقدم التكنولوجي في التوفيق بين العرض والطلب
من الممكن أن تسهم أوجه التقدم التكنولوجي إلى حدٍ ما في التوفيق بين العرض والطلب. وعلى سبيل المثال، تُعتبر عملية إزالة ملوحة المياه تقنية غير فعالة في الوقت الراهن، إذ أنها تفضي إلى التلوث وتشَبُّع النظم الإيكولوجية الساحلية المجاورة بالملح. كما أنها تستهلك كميات كبيرة من الطاقة. أما معامل إزالة ملوحة المياه التي تعمل بالطاقة الشمسية، والتي يتم تجربتها حالياً في المملكة العربية السعودية وغيرها، فإن من الممكن أن توفر حلولاُ أكثر ملاءمة للبلدان المشمسة.
وسيقتضي الأمر الأخذ بتكنولوجيات تجديدية لتحسين محاصيل الزراعات وقدرتها على تحمل الجفاف، فضلاً عن توزيع الأسمدة والمياه على الوجه الأمثل. وعلى سبيل المثال، تتوافر بالفعل تكنولوجيات لجمع مياه الأمطار والري بالتنقيط وأساليب فعالة أخرى، إضافة إلى تكنولوجيات إعادة استخدام المياه الرمادية في الزراعات حول المدن. والمياه الرمادية هي المياه المستعمَلة الناتجة عن الأنشطة المنزلية غير المستخدمة في الصرف الصحي، أي غسل الأواني أو استعمال الحمامات الرشاشة.
وعلاوة على ذلك، فإن تطوير التكنولوجيات الخاصة بالتخصيب العضوي من شأنه أن يزيد فعالية استخدام المياه، وذلك من خلال تحسين قدرات الزراعات على استيعاب المغذيات وسرعة نموها.
الضرورة تقتضي تحسين إدارة المياه
يعتمد الحل في نهاية المطاف على تحسين إدارة المياه وليس على إعداد تكنولوجية ما. ومن ثم تقتضي تلبية الطلبات المتنافسة أن يتشاور صانعو القرارات في مجالات المياه والزراعة والطاقة لتصميم ما يتخذونه من السياسات ذات الصلة. وفي مواجهة عوامل عدم اليقين، ينبغي لهؤلاء أن يقوموا بالتخطيط لا من أجل إيجاد حل واحد ممكن للمستقبل فحسب، بل من أجل العثور على عدة حلول. ومن الممكن أن تفضي مواجهتنا السريعة لهذه التحديات إلى التمييز بين تنمية مستدامة على الصعيد العالمي ومستقبل يتعرض للخطر بسبب ظواهر ندرة المياه والتلوث والفيضانات التي تتربص بمئات الملايين من البشر.
ومن المتوقع أن يُحدث تغير المناخ في العالم العربي ومنطقة غرب آسيا ارتفاعاً في درجات الحرارة وزيادة جفاف التربة وتحولات في نسق سقوط الأمطار الموسمية. وذلك هو ما تشهده بالفعل سوريا وتونس مثلاً. ومن المحتمل أيضاً حدوث مزيد من الفيضانات وموجات الجفاف وانخفاض في معدلات هطول الثلوج وذوبان الثلج في بعض المناطق الجبلية، فضلاً عن ارتفاع مستوى سطح البحر ودرجة ملوحة المياه في طبقات المياه الجوفية الساحلية.
ويأتي نحو ثلثي المياه السطحية المتوافرة في هذه البلدان من مناطق تقع خارجها، وهو الأمر الذي أدى في بعض الأحيان إلى نشوب نزاعات مع بلدان المنبع. ولقد أسفرت النزاعات السابقة عن تشريد مجموعات كبيرة من السكان داخل بلادهم، فضلاً عن تدمير البنى الأساسية المخصصة للمياه في العراق والكويت ولبنان، على سبيل المثال، مما أدى إلى استنفاد الموارد اللازمة للإصلاح. ومن أجل نزع فتيل النزاعات المحتملة على الموارد المائية، أجريت محاولات ترمي إلى تشاطرها، فقامت جامعة الدول العربية بإنشاء المجلس الوزاري العربي للمياه ووضع إستراتيجية الأمن المائي العربي.
ضرورة التسليم أولاً بالطابع الجامع لمسألة المياه حتى يمكن تحسين إدارتها
يشير التقرير، على وجه الخصوص، إلى ضرورة التسليم بأن مسألة المياه تشمل الطيف الكامل لعملية التنمية. فالواقع أن مجالات إنتاج الأغذية والطاقة، والصناعة، والصحة البشرية والسلامة البيئية، إنما تعتمد جميعها على المياه؛ وهي كلها عوامل ضرورية كل الضرورة لتحقيق التنمية الاجتماعية الاقتصادية، وترتبط فيما بينها على نحو متزايد.
إن إغفال الطابع الجامع لمسألة المياه قد يكلف غالياً. مثال ذلك أن دلتا نهر الميسيسيبي، في الولايات المتحدة، خضعت لتعديلات كبيرة لأغراض الزراعة وتوليد الطاقة الكهرومائية. ولكن عند تخفيض المخاطر التي تتعرض لها الزراعة في أعالي النهر، أفضت عمليات التنظيم إلى اتساع نطاق المخاطر أسفل النهر، وهو ما نجم عنه تفاقم تأثير إعصار كاترينا على مدينة نيو أورلينز في عام 2005. ولكن ما هي العلاقة بين هذين الأمرين؟ الواقع أن السد الذي أُنشئ على هذا النهر يحول دون نقل الرواسب. ونظراً لعدم وجود مستودع دائم للرواسب، فإن تأثير المد والجزْر والأمواج يقرض بالتدريج دلتا النهر التي أُنشئت مدينة نيوأورلينز فوقها ويتسبب في غوص هذه المدينة التي كثيراً ما تتعرض للفيضانات. أما استخراج المياه الجوفية والنفط والغاز في دلتا النهر فإنه أحدث انهيارات أرضية في هذه المدينة.
يُبرز هذا المثال مشكلة من الأهمية بمكان. وتتمثل هذه المشكلة في أن غياب الاتصال بين القطاعات الاقتصادية، وكذلك بين المستخدمين وصانعي القرارات والإداريين، أفضى إلى تدهور الموارد المائية إلى حد خطير في جميع أرجاء العالم، مما هدد جميع القطاعات التي تعتمد على المياه وارتهن العملية التنموية تبعاً لذلك. وتوقعاً لحدوث تغير مناخي قد يؤدي إلى خفض مستوى الموارد المائية، في حين أن الطلبات تتزايد علي المياه، تتجه البشرية مضطرة نحو تحقيق تنمية غير مستدامة.
وفي الوقت الذي تواجه فيه البشرية مستقبلاً غامضاً ومحفوفاً بالمخاطر، يِؤكد بشدة التقرير الخاص بـ "إدارة المياه في ظل عدم اليقين والمخاطر" أنه ليس لنا أن نتصرف وكأن الأمر لا يعنينا. بل يجب علينا بكل تأكيد أن نعيد توجيه تخطيط عملية التنمية وأسلوب إدارتنا بحيث نأخذ في الاعتبار بشكل أفضل الوضع برمته. فالوقت يستعجلنا.
تلكم هي بعض الرسائل الرئيسية التي يشملها التقرير الخاص بـ "إدارة المياه في ظل عدم اليقين والمخاطر". وقد قدمت اليونسكو النسخة الرابعة من هذا التقرير، الذي يندرج في سلسلة تصدر كل ثلاث سنوات، وينتجه برنامج الأمم المتحدة العالمي لتقييم الموارد المائية، وذلك في إطار المنتدى العالمي السادس للمياه في 12 آذار/ مارس 2012، في مارسيليا (فرنسا) باسم 28 وكالة شريكة في لجنة الأمم المتحدة المعنية بالمياه.
source / site web UNESCO
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire