dimanche 22 mars 2020

الاوبئة في نظر فقهاء مغاربة من القرن 18 و19

أوبئة بلاد العرب.. تاريخ أخطر الطواعين منذ عهد عمر بن الخطاب


لما كانت الهيمنة للتاريخ السياسي والعسكري على الإنتاج التاريخي في العالم، فقد ظل الاهتمام بالتاريخ الاجتماعي ومختلف تفرعاته مغيبا في الكتابة التاريخية إلى فترة متأخرة من القرن 20. وفي هذا الصدد، يعد تاريخ الأمراض والأوبئة من المباحث المستجدة التي لقيت اهتماما متزايدا من طرف المؤرخين قصد استيعاب وفهم التحولات التاريخية التي مرت منها المجتمعات.

            وكان رواد مدرسة الحوليات الفرنسية من السباقين إلى وضع الأسس العلمية لدراسة الأوبئة عبر الانفتاح على علم الاجتماع وعلم النفس والديموغرافيا وتبني التحليل والتركيب بدل التتبع الكرونولوجي. فاستطاعوا تشكيل مبحث في التاريخ يتقاطع فيه التاريخ الاجتماعي والديموغرافيا التاريخية وتاريخ الطب وتاريخ الذهنيات، وهو يشمل دراسة مختلف الأمراض والعاهات ونقص التغذية… وقد جاء الاهتمام بهذا الجانب قصد الاحتفاء بتطور الطب وتمكنه من وضع حد للوفيات بسبب الأمراض الوبائية  في أوربا انطلاقا من النصف الثاني من القرن 20. ومن أهم الباحثين في هذا الجانب نذكر المؤرخ Jean Pierre Peter   جون بيير بتر و Patrice Bourdelais بارتريس بوردلي و  Christian Guilleré كرستيان كويري. ونذكر في المغرب المرحوم محمد أمين البزاز وعبد الهادي بياض وعبد العالي الفقير وغيرهم.

                 وقد تطور هذا المبحث كثيرا مستفيدا من التراكم المعرفي والمنهجي ومن وفرة المادة المصدرية والمعالجة المعلوماتية للإحصائيات الوبائية في علاقتها مع الأوضاع والمعطيات السوسيو-ديموغرافية.  وبفضلها تم الوقوف عند احتضان الأوبئة لمختلف الهواجس والمخاوف التي قضت مضاجع الإنسان، كما أنها بيَنت للأجيال الحالية المرتكزات الصحية والثقافية للمجتمعات القديمة.

                لقد شكلت الأمراض والأوبئة تحديات وإكراهات ملازمة للإنسان طوال مساره التاريخي، فلم تكن غائبة عن الحياة المادية لمختلف المجتمعات، فأرَخت لسنوات ظهورها بأسماء مختلفة، ووشمت ذاكرة المجتمعات على شكل مكتوب وشفهي، بل غلفت بعضها بطابع أسطوري جد واضح. وترتبط الأمراض بكل مفاصل المجتمع من تغذية وعلاج واقتصاد ومعتقدات وتقاليد وغيرها، وبالتالي فمن خلالها تم التعرف على مختلف التحولات المجتمعية. وكونت كل ثقافة تمثلات وصورا معينة إزاء المرض، وهي وليدة صيرورة تاريخية طويلة الأمد وتستبطن الموقف من الموت والحياة والاستشفاء والمنظور إلى الكون. وتظهر على سطح الوقائع هذه الترسبات ويتم تداولها على نطاق واسع كلما استجد الخوف من الأوبئة الفتاكة.

               تعرض الإنسان لأوبئة متعددة، فالجذام كان موجودا بأوربا منذ حتى أواخر العصر الوسيط. وعانى الأوربيون بشكل قاس من تبعات مرض السل خلال الفترة الرومانية، وعاث الزهري فسادا في أوربا وآسيا حتى قبل اكتشاف أمريكا، بل إن الطاعون قد أودى بحياة العديد من الأوربيين في مناسبات عديدة لعل أبرزها طاعون سنة 1348 الذي أتى على ما نسبة تراوحت  بين النصف والثلث. وبقيت هذه الأمراض تقتصر على مناطق محدودة  في العالم حتى مرحلة قريبة.

                 أما بالنسبة للمغرب، فقد عاش بدوره في فترات عصيبة. احتفظت الكتب الإخبارية والذاكرة الشفهية بأسماء سنوات تحمل الأوبئة التي تعرض لها المغاربة ( عام الوباء- عام بوكليب…). جاء بعضها من خارج البلاد قبل ان يعم مختلف المناطق الحضرية والقروية. ويعد الطاعون من الأوبئة المألوفة والمعهودة لدى المغاربة لزمن طويل، حيث عانت البلاد من موجات فتاكة، منها طاعون أواخر القرن 16 وأواخر القرن 18 اللذان فتك بشكل قاس بأهل سوس والجنوب المغربي عامة.

               وحلت القوة التدميرية للكوليرا (الوباء الأزرق)، محل الطاعون، (الوباء الأسود)، ابتداء من القرن 19، حيث شهد العالم خمس موجات فتاكة لهذا الوباء انطلقت كلها من أسيا، ودخلت إلى المغرب عبر الجزائر والبحر الأبيض المتوسط، قبل تسربها إلى باقي انحاء البلاد بفعل تنقلات الجيوش والتجار بالأساس. وهو وباء مستجد في المغرب، حيث لم يفد عليه إلا ابتداء من سنة 1834. وكانت كل موجة تفتك بالآلاف من المغاربة، فخلال 1867-1869 قضى على حوالي 6400 نسمة. ويبدو أن العالم لم يتحكم نسبيا في هذا الوباء المستجد إلا بعد سنة 1884، بينما استمر في فتك أرواح العديد من المغاربة حتى منتصف القرن 20. فما موقف النخبة والعامة من الأوبئة؟

              ولما كان الفقهاء والعلماء صفوة المجتمع وزاوج معظمهم بين الفقه والطب وغيرها من العلوم، فقد كان لهم دور بارز في توجيه العامة. لهذا فموقفهم مهم جدا في الكشف عن البنية الذهنية التي كان المغاربة يواجهون بها فترات انتشار الأوبئة.

                حظيت قضية الهروب من المناطق الموبوءة بنقاش مستفيض، بل تكرر في كل المراحل التاريخية، فخلف هذا الأمر العديد من المؤلفات والمراسلات والتقاييد عبارة بالأساس عن استنساخ لما كتبه المؤلفون المسلمون قبل القرن 18. انقسم الفقهاء المغاربة إزاء هذه المسألة إلى صنفين، أكد الصنف الأول على مشروعية الهروب من الأماكن الموبوءة، إذ نجد محمد بن يحيى  الأزاريفي السوسي في تقييده” تأليف في الطب” يرتكز في بناء موقفه على المصلحة العامة وكون الشرع ينهي الموت بالسموم، لهذا أجاز الخروج من المناطق الموبوءة ورفض الدخول إلى الأرض التي عم فيها الوباء. ويعاضده في هذا الرأي محمد بن القاسم الفيلالي، مستعينا بملاحظاتك وتجربته الواقعية، فأكد على أن: “الجالسين المنكرين من لا يمنعه من الخروج إلا الفقر وعدم القدرة على النقلة ومنهم من منعه خوفه على ما جمع من حطام الدنيا… ومنهم من منعه الجهل وعدم العلم بالرخصة الشرعية واعتقاد أن من خرج مات به، مات كافرا والعياذ بالله”. وإذا كان موقف الفقيهين قد حاول أن يوفق بين منطوق النصوص الشرعية والواقع المعيش، فإن معظم فقهاء قد رجحوا القراءة المباشرة للآيات القرآنية والنصوص الحديثية.

                دافعت هذه الطائفة على ضرورة الاستقرار، معتبرة أن الميت بالوباء بمثابة الشهيد وأن الفرار دلالة على عدم الإيمان بالقضاء والقدر. وبرزت في هذا الخصوص أراء الرهوني و العربي المشرفي. وهو رأي سار عليه العديد من الفقهاء والقضاة وبعض أعضاء النخبة المخزنية خلال القرن 19، منهم قاضي مراكش عبد الله بن خضراء السلاوي. ونستشف موقف أحمد بن خالد الناصري الرافض لمغادرة المكان الموبوء من قوله: “وقع كلام المنصور رحمه الله في أمران يحتاجان إلى التنبيه عليهما. الأول إذنه لولده أبي فارس في الخروج من مراكش إذا ظهر الوباء ولو شاء يسيرا، وهذا محظور في الشرع كما هو معلوم ومصرح به في الأحاديث”.

                 وإذا حاولنا البحث عن الأسس المتحكمة في هذا الموقف، فنجد أنها ترتبط بقضايا خلافية أخرى مثل مشروعية الاستشفاء وإمكانية العدوى. فقد عارضت طائفة من الفقهاء حقيقة العدوى، واعتبرت الاحتراز منه منافيا للشرع، فالعربي المشرفي لا يؤمن بمسؤولية اختلاط واجتماع الناس في انتشار الأوبئة، ونكر هذا الأمر بصفة قطعية بالقول: “كما قالوا بزعمهم الفاسد إن سبب الوباء اجتماع الناس…”، أي أن العدوى ترتبط بأمور أخرى غير مادية في نظره، وليس للاجتماع الإنساني دور فيها.

               ويبدو أن موقف فقهاء القرن 18، كان يزاوج بين النظر العقلي والتجريبي، فمحمد بن يحيى الأزاريفي السوسي، جعل التجمع في المناسبات العائلية سببا من أسباب انتشار الأوبئة: “وينبغي لمن نزل بهم الوباء ترك الاجتماعات المعتادة في الأفراح كالأعراس”.

                ولا شك أن الوفيات الكثيرة التي كانت تعقب الأزمات الوبائية التي عاشتها البلاد لها علاقة وثيقة بالموقف من العلاج والعدوى والتدابير المتخذة للحد من الانتشار السريع للأوبئة. فالعربي المشرفي  والرهوني ينكران  جدوى النصائح الطبية، ويدعوان في المقابل إلى الدعاء والصلاة للقضاء عليها، واستندا في ذلك على موقف السيوطي الذي يقر بكون شهادة المتوفي بالوباء مثبتة.

               وفي المقابل، نظر محمد بن يحي  الأزاريفي السوسي إلى هذا الأمر بشكل حذر، حيث يدعو إلى اتخاذ تدابير قبل انتشار الوباء ومنها، الحرص على النظافة والحرص على اختيار مكان السكن. أما خلال الإصابة، فيقر بضرورة العلاج والعزلة والانفراد عن الناس وتجنب استنشاق أنفاسهم إلا للضرورة، وعدم استعمال ملابس المرضى والموتى بالوباء وتجنب أكل ما تبقى من طعامهم وشرابهم. أما ما أعطاه الميت وأهله من مال فاعتبره محل نظر، خصوصا أن القياس لم يمنعه والواقع والتجربة هما المحددان لمشروعيته.

               وإن كان نظر الفقهاء إلى الأوبئة يغلب عليها الطابع الديني والغيبي، فإن عامة الناس زاوجت بين المنظور الديني والطبيعي. لهذا كانت ذهنية معظمهم تربطها بالعقاب السماوي بسبب انتشار البدع والخطايا الدينية والأخلاقية، موازاة بالبحث عن آليات لدرئها عبر استعمال مختلف الأبخرة ورش جنبات المنزل واتباع نظام صارم في الحمية والعزل الانفرادي وعزل مواقع التزود بمياه شرب المصابين  وغيرها من الأساليب المختلفة.

               وعلى كل حال، فموقف فقهاء أواخر القرن 18 و19 لم يتجاوز النصوص التراثية، واجترار ما أنتجه الفقهاء والأطباء المسلمون منذ أزمنة غابرة. ولا يخرج عن الاعتقاد الراسخ في العقاب السماوي لتفسير أسباب وقوع والوباء، وهو ما كان شائعا وسط الأطباء في الحضارات القديمة مثل أبقراط، ونابع من التفسير المحدود والضيق للآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة بشأن الموت والحياة وقضية مشروعية الاستشفاء وإمكانية العدوى.

             وتحولت مقولات الرافضين للعدوى، حسب محمد الأمين البزاز، إلى سلاح لرفض أي تجديد طبي خلال أواخر القرن 19 خصوصا “الكرنتينة”، حيث كان المجلس الصحي بطنجة يفرض الحجر الصحي على السفن الموبوءة أو المشكوك في الوضعية الصحية لركابها، فواجه الفقهاء، من أمثال الناصري وأبي القاسم الزياني والعربي المشرفي، مجددا هذا الأمر بالاعتراض.

             تدخل عمال الأقاليم للحد من انتشار العدوى عبر إجراءات تتعلق بوضع أحزمة صحية وسن الحجر الصحي على الحجاج المغاربة القادمين من الشرق. وذلك بمنع الدخول إلى المدن وإقامة المحاجر الصحية للقادمين إليها وحجز أمتعتهم وبهائمهم.  غير أن طول فترات هذه الإجراءات تمخض عنها في مناسبات عديدة الاستياء والرفض والتمرد والعصيان خصوصا عند اشتداد ندرة المواد الغذائية في الأسواق بفعل توقف المبادلات التجارية، فتجد العامة هذه الظروف مناسبة لتوحيد صفها مع التجار. ولعل المثال الواضح في هذا الجانب التظاهرة التي قام بها أهل طنجة بعدما فرض على المدينة حزام صحي للحد من انتشار الكوليرا سنة 1878، لم تتوقف إلا بتدخل السلطان المولى الحسن الأول.

      د. محمد مسكيت

 

المراجع المعتمدة في إنجاز هذا المقال:

 

–         حسن الفرقان، ادبيات الاوبئة في مغرب القرن 19، نموذج أقوال المطاعين في الطعن والطواعن للعربي المشرفي، تحقيق ودراسة، منشورات النتوحيدي، طنجة، 2014

–         محمد الأمين البزاز، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و 19، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء،1992

Patrice Bourdelais, histoire de la population, histoire de la médecine et de la santé : cinquante ans d’expérimentations, in : DYNAMIS, n.17, 1997, pp.17-36

–         جاك لوغوف، التاريخ الجديد، ترجمة محمد الطهر المنصوري، منشورات المنظمة العربية للترجمة، 2007

نشر أول مرة في: 

jeudi 5 mars 2020

Oasis: calme et simplicité



Oasis: calme et simplicité 

Mouskite Med


L’oasis, comme la définit Le Petit Larousse, est une  petite région fertile grâce à la présence d’eau dans un désert. Ce sont des systèmes de production complexes et toujours en équilibre fragile ne pouvant existé sans les soins incessants prodiguées par l’homme[1]. Vivre au Sahara, c’est plonger dans une planète du silence et de l’immobilisme. L’angoisse du manque d’eau, angoisse lorsqu’on ne parvient pas à trouver une source d’eau douce. A la tombée de la nuit, aussi, lorsqu’on réalise que l’on n’est qu’un grain de sable au milieu d’une immensité, sans horizon, rien ne sert de s’endurcir, il faut s’y simplifier, car le désert rend humble : on n’en triomphe qu’en lui obéissant[2].



[1] Claude Cournoyer, 2004
[2] Jean-Marc Durou, 2003

الفيضانات في تاريخ المغرب الحديث والمعاصر

تعد دراسة المناخ بجميع مكوناته من المواضيع التي استأثرت باهتمام المؤرخين الأوربيين منذ ثلاثينيات القرن العشرين مستفيدين من توفر المادة المصدرية، ففسروا على أساسه مجموعة من الجوانب المظلمة في التاريخ الأوربي، بيد أن الدراسات المغربية لا تتجاوز دراستين أساسيتين وهي دراسة حميد التركيي و روزنبرجي ودراسة محمد الأمين البزاز، وقد استفدنا من هذه الأخيرة كثيرا في إعداد هذه المقالة.
الجدير بالذكر أن المصادر التاريخية لا تسعفنا كثيرا في تتبع الفيضانات بالمغرب منذ الفترة القديمة، غير أن القرنين التاسع عشر و العشرين يتميزان بوفرة المادة المصدرية، ورغم كونها لا تغطي كل المجال المغربي فقد أمدتنا بإشارات مهمة حول الفيضانات وتأثيرها الاجتماعي و الاقتصادي. ويتخذ الفيضان في المصادر التاريخية مسميات مختلفة: المطر المسترسل –السيول الجارفة– أمطار طوفانية… وغالبا ما يأتي بعد فترات طويلة من الجفاف والقحط والأوبئة ومعظمها تأتي في شهر مارس. فقد أقيمت في فاس صلاة الاستسقاء 16 مرة سنة 1750م. فجادت السماء بأمطار طوفانية وحسب وصف القادري في “نشر المثاني” فقد “أغرقت الأرض وأودت بالبهائم “. وبعد مجاعة 1776م تهاطلت أمطار غزيرة في فصل الشتاء في نواحي الرباط فهدمت الكثير من المنازل وأودت بحياة العديد من الأشخاص غير أن مصادرنا لم تذكر عددهم كما لم تشر إلى مجال انتشار وامتداد هذه التساقطات المطرية الكثيفة وأثارها في باقي المناطق.
كثيرا ما تؤدي الفيضانات إلى ارتفاع الأسعار وعرقلة المواصلات فثمن القمح كان 40 ليرة لكل 12 كلغ ثم أصبح 50 حتى وصل إلى 56 ليرة حسب أحد الأجانب. أمام هذا الوضع عانى الفقراء من الجوع فمات عدد كبير من الناس جوعا في مراكش واضطر الآباء إلى التخلي عن أبنائهم للمحسنين.
وشهد خريف 1824م موجة قاسية من البرودة وأمطار طوفانية “فوق ما تعتاده العقول”، فصاحب التذكرة يصف فاس قائلا “فاحتملت أوديتها من السيل ما لا يعلمه إلا الله وانحدرت على وادي فاس عند افتتاح العدوتين، عدوة الأندلس وغيرها، وصلها بعد العشاء على حين غفلة من أهلها فأغرق ما بها من الديار والأسواق… ومات من الخلائق العدد الكثير”.
أما سنة 1802م. فكانت كثيرة المطر في الجنوب، حيث عرفت تزنيت سيلا جارف، وتصفه إحدى التقاييد السوسية: “جعل الله عليهم وعلى جميع هذه البوادي المطر الكثير حتى نظن أن الدنيا تغرق بالماء وكثر الهدم وسمي الناس هذا العام بأبي خربان -أي صاحب التخريب- فكل شعبة تستحيل واديا وكل واد يعود بحرا بالماء وذلك كله عجائب وغرائب…”، وصاحب الرعد والثلج في 15 شتنبر 1867م السيل الجارف بنفس المنطقة فهدم 40 دارا بوجان.
وفي شتاء سنة 1878 أمطرت السماء بغزارة بعد سنة طويلة من الجفاف فقد كتب قنصل فرنسا بالدار البيضاء “منذ زهاء 12 يوما والأمطار تتهاطل بغزارة على طول السواحل، فارتوت الأرض بعد أن كانت تحترق ظمأ للماء”.
ويعتبر فيضان مارس 1890 م، خطيرا حيث استمرت الأمطار لمدة 20 يوما متتالية ففاضت الأودية وخرجت عن مجراها الطبيعي، جارفة الأشجار والبهائم ومهدمة للدور وكان عدد الضحايا في فاس ما بين 85 و 100 ضحية. ولم تمر سوى سنتين لتعاني كل مناطق البلاد من تهاطل أمطار وابلة صاحبتها رياح الشركي فذابت الثلوج ليخرج وادي سبو عن مجراه الطبيعي جارفا قرى متعددة ودمر واد زيز عدة قرى بتافيلالت وتسبب في خسائر كبيرة في الأرواح.
ويصف محمد المختار السوسي فيضان تزنيت سنة 1944 قائلا: “وكذلك وقعت غريبة ذلك النهار في تزنيت فقد انسد مخرج الوادي. فتراجع الماء نحو الديار مرتفعا، حتى هدم 75 دارا. وقد فسد كل ما فيها من الأثاث والحبوب. ولكن الله حفظ السكان لوقوع ذلك وسط النهار فتجارى الناس، فأخرجوا صبيانهم خوضا في المياه. والناس الآن في هرج ومرج من بناء دورهم وترميمها. وهذا أيضا شيء لم يقع قط في تزنيت ولا أثر عن عهودها المتقدمة “أمام توالي الفيضانات نتساءل عن بعض الآليات التي واجه بها الإنسان المغربي الفيضانات.
لقد وجد الإنسان المغربي في التفسير الغيبي ملاذا آمنا لتعليل مختلف الظواهر الطبيعية فاعتبر الفيضان، كالكوارث الأخرى، عقابا إلهيا لخروجه عن التعاليم الدينية وانتشار الفساد وتبنى السلاطين والأمراء نفس الموقف في رسائلهم وخطبهم فحثوا الرعايا على التصدق وزيارة الأولياء. وهذا لا يعني استسلامه للفيضانات بل يتهيأ لها بإعداد ما يسمى “بإفرض” في مناطق توقف المياه أثناء التساقطات المطرية، وهو حوض مائي شاسع غير مغطى تستعمل مياهه لإرواء البهائم وغسل الملابس. وتم تخصيص ضفاف الأودية للزراعة الفصلية كالشعير الذي ينبت عادة في فصل الصيف. وبالموازاة مع ذلك ، يشيدون بالقرب من كل الشعب “مطفيات” لخزن المياه وتتعدى قدرتها التخزينية، حسب إحدى الدراسات الفرنسية لسنة 1940م، حوالي50 متر مكعب، علاوة على مخازن جماعية “إكودار” في قمم الجبال لخزن الثروات والموارد الغذائية والمطمورات والأهراء.. كانت هذه الممارسات تتم في إطار تعاوني وتضامني قبل وقوع الجائحة المائية وتوازيها تصرفات مماثلة بعد الفيضانات يلعب فيها الصلحاء والفقهاء والشيوخ دورا مركزيا .أما بالنسبة للسلاطين فلا تمكننا مصادرنا التاريخية من تتبع تصرفاتهم إزاء الفيضانات سواء زمنيا أو مجاليا، بيد أن العواصم والمناطق الشمالية استأثرت بتدخلاتهم والتي تتمحور أساسا في توزيع الإسعافات على المنكوبين والإذن للتجار باستيراد الأقوات من الخارج مع تحديد الأرباح كما فعل السلطان عبد الرحمان بن هشام .
إجمالا يمكن القول أن الانسان المغربي كان يعيش دائما في رهان مع الطبيعة معتمدا ثلاث آليات أساسية: التضامن والمحلية والأخذ بعين الاعتبار أثر الفيضانات في نظامه الاجتماعي والاقتصادي مما سمح له بمواجهتها  والتصدي لتباعاتها المختلفة في كثير من الأحيان


المصادر والمراجع المعتمدة :
محمد المختار السوسي، خلال جزولة 4، المطبعة المهدية، تطوان، (د.ت)
محمد المختار السوسي، خلال جزولة 2، المطبعة المهدية، تطوان، (د.ت.)
محمد الأمين البزاز، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب خلال القرنين 18 و 19، منشورات كلية الاداب بالرباط، 1992.
De La Boissière, monographie des Ahl Tiznit, mémoire dactylographie daté de Mars 1940, Archives Diplomatiques de Nantes.
Bernard Rosenberger et Hamid Triki, famines et épidémies au Maroc aux 16 et 17 siècles,in :HespérisTamuda,v.15,fasc.unique, éd.tachniques Nord Africaines, Rabat, 1974